التخطي إلى المحتوى

إلى ابنتي الغالية خولة مهدي الحيدري
يحزنني كثيرا ألا أكون معك في يوم فرحك الذي ما توقعت أبدا أن يحضر هذا اليوم و أغيب أنا
يحزنني كثيرا ألا أكون معك يوم زفافك الميمون .. لآخذ بيدك وأشاركك فرحك وأرى فيه وجهك المتفائل كالصباح البريء كالطفولة المشرق كالضحى الرقراق كالماء الرقيق كالأنسام ،
يحزنني جدا شعورك الكسير الحائر وانت تزفين الى عش الزوجية دون أب ولديك أب .

إنها لحظة حزينة دامعة صعبة عليك وعلى أبيك لكنها ضريبة الحرية يا ابنتي .
ولعل فراق الوطن والأحبة , وتجشم عناء البعد والاغتراب أقل ضرائب الحرية كلفة .
وليكن عزاؤك أني لا أكتب لك الآن من المعتقل , أو تكتب إليك روحي من مقبرة الشهداء .
سامحيني ياابنتي الغالية إن لم أرد على أسئلتك البريئة منذ حين ، لكني اليوم أجد نفسي مدفوعا أكثر من أي يوم مضى أن أفصح لك عن بعض الحقائق التي قد تجدين فيها إجابة ما عن أسئلتك القديمة الجديدة فتعذري أباك يوم غادر الوطن ذات مساء من مقر عمله دون لحظة وداع ، ولتعذريه إن غاب يوم زفافك ؛ فثمة ما يجب أن تعرفيه اليوم .

لقد كان على أبيك أن يصرخ بقوة
في وجه القتلة الذين خرجوا إلينا كالكائنات المتحولة في أفلام الخيال العلمي من كهوف الجهل والحقد والأيدلوجيات المُسَمّمَة في صعدة يسْنُدُهم التِّنِّيين الجريح في مستنقع انتقامه في سنحان , يدمرون كل شيء , ويستبيحون كل حرمة .
حرمة النفس وحرمة المال وحرمة المسكن وحرمة الحرية وحرمة الوطن .
الحرمة والحرام لديهم هو ما لا تصل إليه أيديهم فقط , وما عداه فلا حرج .
الحرب لديهم هواية ، والقتل متعة ،
والموت ثقافة , وروائح الموت تنضح لديهم من تحت حافر كل اسم وفعل وحرف , كتائب الموت , زوامل الموت , شعارات الموت , ثقافة الموت , يستدعون حتى الموتى لتغذية الأحياء بالموت من الحسين بن علي إلى حسين بدر الدين؛ كيلا يبالوا بعدها أن يضعوا الوطن كله في دائرة الموت من البحر إلى البحر وهم يصرخون .
لم ولن يبالوا أبدا بحياة اليمنيين ولا بسعادتهم ولا بوطنهم ولا بمستقبل أبنائهم ؛ فَلْيَحرقْ المواطن , فَلْيَغرق الوطن , فَلْيُلَغَّمْ الحاضر ، فَلْيَنْفجر المستقبل ، فَلْتُسَمّم. الحياة وتَعْتَل , لا يهمهم ذلك قيد نهدة واحدة .
ولذلك كان شاعرهم دقيقا وصريحا مع اليمنيين وهو يكتب بدقة ودراية زاملهم الأفضل وحاديهم إلى الموت , ما نبالي ما نبالي ما نبالي…… واجعلوها حرب كبرى عالمية
ما نبالي بماذا ؟ وحرب كبرى أين ؟ هل تتوقعون أنهم كانوا يقصدون بلجيكا !! كلا ورب محمد ، إنما , ما نبالي بالوطن , وسنشعلها حرب كبرى على الوطن ، هذا هو بالضبط ما تنطق به كل أدبياتهم ، وليس زاملهم فحسب ؛ لكن كثيرا من اليمنيين فقدوا حاسة الإدراك على ما يبدو وهم يرددون معهم ويحترقون ، ما نبالي ما نبالي ما نبالي .
ولذلك كله لم يكن في وسع ابيك يا ابنتي الغالية أن يهادن الموت أو يواجهه منفردا , ولقد أزْمَعَ ذات يوم أن يبتسم تُقْيَةً في وجه القتلة كما حاول أن يصرخ بقوة : أيها القتلة !!! فكان شعوره في كلا الحالين كشعور من يحاول تجربة عينات السم ؛ أي أن يشرب السم تجربة .
لقد كانت المعادلة صعبة جدا أمام أبيك وهو يعمل مديرا عاما للثقافة تحت سلطتهم ؛ فلكي يعيش كما يريد ,عليه أن يقول ما يريدون , فآثر أن يقول ما يشاء حتى وإن عاش شريدا معدما كما يشاءون ؛ إيمانا منه بقدسية الكلمة والقيم ، و بما كتبه هو في مقدمة ديوانه الطوفان يوم تحت التخصيب قبل ثمان سنوات وهو يخاطب قلمه أولا
قلمي …. أيها الهرم المحمول ،.. قل ما تشاء لا ما يشاءون ، حتى وإن عشت كما يشاءون لا كما تشاء ، فلأن تموت كما تريد ، خير لك من أن تحيا كما يريدون .
( فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان) فهل أكفر بما آمنت به ؟!! كلا ورب محمد .
لم يكن في وسعي الصمت أبدا يا ابنتي وأنا أرى شجرة أحلام اليمنيين تضرب من كل اتجاه بمعاول الكائنات المتحولة ، ومخالب التّنّيين الأزرق فتتهاوى أحلامنا الجمهورية السبتمبرية للمرة الثانية دفعة واحدة .
نعم
لقد كاد اليمنيون بعد ثورة فبراير 2011 أن يحققوا حلمهم التاريخي العظيم للمرة الثانية بالتحرر من سلطة الفرد والعائلة والطائفة والمنطقة ، وإعادة السلطة إلى الشعب , وكان الشعب قابَ قوسٍ أو أدنى من دولته المدنية في الجمهورية الثانية , بعد أن التقى اليمنيون في أوسع وأطول حوار وطني في تاريخ الشرق الأوسط على طاولة واحدة لا تسمح أن يقرأ عليها من جميع ممثلي شرائح الوطن إلا مشاريع الوطن وحسب .
ودنت الأحلام حتى تدلت كثمرة أينعَ قطافها في مخرجات مؤتمر الحوار الوطني كأعظم مكتسبات اليمن الحديث على الإطلاق .
وتَفَتّقَتْ أكمَامُ الحلم عن دستور وطني كان على وشك الإعلان
الرابح فيه وطني والخاسر فيه اثنان
الكاهن عبد الكاهن
وزعيم ملوك ملوك الجان
وعظم الحلم واتسع الشوق واشْرَأَبَّتْ الأعناق وشَخَصَت الأبصار لتَتَضَوّعَ عبير الجمهورية الثانية ؛ النسخة المنقحة المُعَدّلة المُصَحّحة المُحَدّثة من ثورة 26 سبتمبر ،ونسائم الدولة المدنية والنهج الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية وسيادة القانون .
وما كادت قلوب اليمنيين تخفق طربا وتطير فرحا بيمن سبتمبري معدل مصحح منقح مُحَدّثٍ جديد سعيد حتى طلعت عليه الأطباق الطايرة والأشباح الظلامية بزوامل الموت تردده جحافل الكائنات المتحولة القادمة من شمال الشمال ومخالب التنيين القاتل من سنحان لتعيد تاريخ سبتمبر خمسة أيام فقط؛ من يوم السادس والعشرين من سبتمبر يوم إعلان الجمهورية إلى يوم الحادي والعشرين من سبتمبر يوم تنصيب الإمام محمد البدر إماما لليمن خلفا للإمام الراحل أحمد ابن الإمام الراحل يحيى حميد الدين سليل الأئمة المتعاقبين إمام بعد إمام حتى جدهم الإمام الهادي القادم من الرس والذي لم يكن إماما في الأصل قبل اكثر من الف ومائة وخمسين عاما
وعاد سبتمبر خمسة أيام وعاد معه كل شيء
عادت الولاية على اليمنيين عبر الجهاز التناسلي للهاشميين وليس عبر صندوق الانتخابات
وعادت نغمة السيد لتزكم أنف الثقافة المعاصرة وتخترق طبقات الأوزون في الذاكرة اليمنية (سادة وعرب ومَزَاينة واخدام وزيدي وشافعي واليمن الأسفل )
وعادت سنة عبد الله ابن حمزة والهادي الرسي بتفجير منازل اليمنيين القائلين لهم لا بلا استثناء ؛ من منزل اليمني الإصلاحي منصور الحنق إلى منزل اليمني المؤتمري عبد الله الدعام ،
وعادت الجبايات في كل شيء ، وبسندات تحصيل من المجهود الحربي حتى مولد النبي , حتى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم على اليمنيين وحدهم أن يدفعوا ضريبة مولده .
وعاد الباهوت وابن علوان ، واشتغل مُجَدّداً المَندل السليماني و كتاب الجفر وشمس المعارف ،و اشتغلت والأساطير في ظهور اليماني في مران الممهد لظهور المهدي المنتظر
وإمامُ المسجدِ يُخْبِرُهُم أنَّ المهديَّ سلام الله عليه
يركبُ سيارتَهُ الفُورْدْ الآن…
الآنَ …
الآن اتصل الآن من النَّجَفِ الأشرف بالسّيدْ
انتظروه بخشم البكرة
يوم السبت القادم
أو بعد السبت القادم
أو أيّ خميسٍ قادم
النصر لنا
لا تنسوا أبدا آياتِ الفيل
لصَدّ الــْـ إفّ 18
وادعوا الله بأن ينصر أنصار الله
على أعداء الله بحوض الأشرف والتواهي والجدعان .
……
وظهرت الأربعينيات والحُسَينيِّات والمخدرات …. وبعد تدشين منهج الآل المُحَدَّث الشامل للعرف والقانون من نفي اليمنيين في دماج وإطلاق ثمانين عيارا ناريا من المسافة صفر (ثلاثة أقدام فقط ) لأسير يمني مشلول أعزل في عمران ، وبعد أن اقتحموا صنعاء والأعراف اليمنية معا … خزنوا في غرفة نوم محمد قحطان ….وقتلوا عبد السلام الشرعبي في بيته وأمام أولاده ,….وعذبوا صالح البشري في معتقله حتى الموت , وعينوا المجند ( أبو علي الحاكم ) لواء في الجيش ، وغيروا اسم مسجد ذي النورين في جولة سبأ في صنعاء بمسجد العنسي ، ورخصوا للسوق السوداء حتى أصبحت في شارع خولان غبراء كبجاحة حسن زيد … وجندوا أطفال اليمنيين وعلقوا على سواعد الصبية مفاتيح الجنة ,……
ومنحوا شهادة الثانوية للمقاتلين كبطايق الدعوات….. وعملوا لكل مُؤَيّدٍ إدارة ولكل شَامِيٍّ وزارة ولكل عِمادٍ عمارة ولكل فِلّيْتةٍ شركة بترول

إبنتي الغالية
يحزنني كثيرا جدا أن الذين سرقوا احلام وطننا وانقلبوا على أول نَفَسٍ للجمهورية الثانية فخنقوه ، لم يكتفوا بانقلابهم على اهداف الثورات اليمنية الثلاث سبتمبر واكتوبر وفبراير ومخرجات مؤتمر الحوار والدستور الوطني الوليد ، بل دشنوا مشروعهم الجديد بسيناريو مرعب
و أدخلوا الوطن في دورة موت جديدة اوصلت قناعات اليمنيين أن لا علاج للموت إلا الموت ، فاعلنوا المقاومة عندما تجسدت أمامهم الحالة التي قال عنها المتنبي رحمه الله

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكُنَّ أمانيا

ولذلك عندما جاءت العاصفة خرج الناس في تعز وعدن ومارب والضالع ..ولو امكنهم الخروج في صنعاء وإب والحديدة لخرجوا يرفعون شعار شكرا سلمان
اتدرين لماذا يا ابنتي ؟
لقد أدركت صغيرا بعض المعالجين القدامى بالْكَيّ .. يأتون إليه بالشخص قد هدَّهُ المرض وأعياه الداء ، فيضع المكوى وهو قطعة من الحديد في النار ، ويُحْمَى عليها حتى يتحول الحديد إلى نار ، فيُكْوَى بها المريض في مواضع من الجسم ، فيصرخ تحت وقع المكاوي صراخا يسمعه ويشفق من أجله الجيران ، وكانت مواقع المكاوي من الجسم تكاد تتفطر من الالم الذي يستمر أسابيع ، وهو يقول شكرا للحديد والنار والمعالج بالْكَيّ وبعدها يتماثل الجسم كله للشفاء ، وتصبح مواقع المكاوى ذكرى حياة وعافية .

إن عاصفة الحزم يا ابنتي بالنسبة ليمن ما بعد 21 سبتمبر 2014 م ما هي الا تلك المكاوي التي بيد المعالج القديم بالكَيِّ
لقد استقبلها اليمنيون كما استقبل أجدادهم بالأمس أكثر من سبعين ألف جندي مصري بالبُشْرى لأنهم كانوا يرون في الجيش المصري الوسيلة المتاحة للخلاص من الفئة الباغية التي انقلبت على أهداف الجمهورية السامية في السنوات السبع التي اعقبت ثورة 26 سبتمبر ، كما يرى اليمنيون اليوم في عاصفة الحزم الوسيلة المتاحة للخلاص من الفئة الباغية إياها التي انقلبت على اهداف ثورة 11 فبراير و26 سبتمبر معا
وكما عمل اليمنيون بالأمس للشهداء المصريين نصب تذكاري في صنعاء
وشارع جمال سيعمل اليمنيون غدا نصب تذكري للشهداء الاماراتيين في مارب وشارع سلمان .

يحزنني كثيرا يابنتي أن أجد في وطني حتى الآن وبعد كل هذه الحرائق من لا يريد معرفة الحقيقة ومعرفة من أشعل فتيل كل هذه الحرائق في وطني أو لا يريد أن يعترف بذلك أولا يريد أن يدرك الباب الوحيد للخروج منها ، ويسرف في عناده وحمقه في تبعية التنيين الأقذر أنانية في التاريخ الذي أبى أن يترك السلطة تعود إلى الشعب ،وتقوم بعد عهده دولة مدنية ويمن مزدهر ، فرفع شعار أنا وبعدي الطوفان وتحالف مع انبعاث الأمامية المتبركنة على الوطن في صعدة وفجرا معا الطوفان ليغرقا الوطن كله في أدنأحماقة في تاريخ السياسة قضى فيها على تاريخه وعائلته وجيشه ونفسه وماله قبل أن ينجح في إغراق الوطن نهائيا ، وسيذهب الى لعنة التاريخ غدا ويبقى الوطن . أما هو فإن لم يحسم أمره خازوق العدو المقاومة أو رصاصة الحوثي الصديق فسيحسم أمره عزرائيل محملا بدماء الشهداء وإعاقات الجرحى وعويل الايتام وبكاء الأرامل ولعنات الأرض والأنسان
وسيتعافى اليمن.

ابنتي الغالية
لعلي أكون قد افصحت لك من الحقيقة هنا ما يكفي لأجابة أسئلتك السابقة
ولعلك بعدها قد أدركت الأمر وتَفَهّمْت العذر فكوني على مستوى الحدث الإستثنائي الذي يمربه اليمنيون جميعهم ليس انا وأنت فقط.
ولتحفظي عني هذه الرسالة حتى القاك بإذن الله تعالى ، وإن قدر الله ألا نلتقي فلتدرسيها أبناءك وأحفادك ،
لك مني السلام ومن قلبي المودة
ومن فؤادي الأشواق ومن لساني الدعاء ،وليباركك الله، وببارك لك زفافك وزواجك ومستقبلك .
أسعدكِ الله ورعاك
وجمعني بكم جميعا في أمن وأمان ووطن سعيد
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته

والدك / مهدي الحيدري

“إنها ضريبة الحرية يا إبنتي” .. رسالة مؤثرة من أديب وشاعر يمني إلى إبنته يوم زفافها