ناصر يحيى :

بعض الأحزاب والناشطين المصريين الذين أعلنوا مواقف احتجاجية صاخبة ضد أحكام تبرئة المخلوع حسني مبارك وأعوانه من قتل ثوار 25 يناير؛ كانوا في موقفهم هذا أشبه بالسيدة “كنت فاكره قصده شريف” التي سردنا حكايتها في مقال سابق.. وكأنهم كانوا ينتظرون من النسخة المحدثة من نظام مبارك والعسكر أن يدينوا رمزهم ورمز العسكر الحاكمين في أم الدنيا ويحكمون عليهم بالمؤبد أو الإعدام؟
قد تكون أحكام البراءة بداية صحوة ضمائر المغفلين من الذين هرولوا لدعم مخطط العسكر لإثارة الفوضى والأزمات الداخلية؛ تمهيداً للاستيلاء على الحكم بانقلاب عسكري، وهي مؤامرة لو حكمنا العقل أسوأ بكثير من أحكام البراءة الصادرة السبت الماضي في قضايا قتل المتظاهرين! فالانقلاب بعد أن تحول إلى دولة صار حنبة كبيرة جداً يحتاج قلعه إلى تضحيات ودماء لا يعلم إلا الله حجمها وموعد انتصارها.. أما هذه الأحكام فيمكن أن تنقض بسهولة لو توفرت سلطة شعبية حقيقية لا مصلحة لها في إخفاء جرائم النظام السابق لأنها لم تكن جزءاً منه، ومن ثم تعمل على تقديم أدلة إدانة قوية (كما حدث بالفعل في المرحلة الأولى لمحاكمة مبارك ورجال عصابته؛ عندما أمر الرئيس محمد مرسي النيابة باستئناف الحكم رغم أن الحكم كان بالمؤبد وليس البراءة كما حدث في أيام السلطة الانقلابية الحاكمة اليوم)!
قلنا إن مؤامرة الانقلاب العسكري على المسار الديمقراطي في مصر أسوأ بكثير أحكام تبرئة مبارك التي نعدها نعمة وليست نقمة؛ لأنها فضحت مجدداً حقيقة السلطة العسكرية الانقلابية الحاكمة، وحقيقة كونها جزءاً عضوياً من نظام حسني مبارك، واستكملت الأحكام الصورة العامة لعودة نظام حسني مبارك من كونه نظام رجال الأعمال الفاسدين والمرتبط بالمشروع الصهيوني الأمريكي ومرتكزاته في المنطقة ارتباط التابع والعبد المأمور والمستعد لتنفيذ المهام المطلوبة منه بسرعة (أو مسافة السكة على حد تعبير السيسي) كما يحدث في حدود غزة الآن لإحكام الحصار حولها.. أو كما يحدث في ليبيا من دعم لقوات الثورة المضادة بقيادة حفتر الذي أعلن قبل أيام استعداده للتعاون مع الدول التي كانت تعادي نظام القذافي بما فيها.. إسرائيل!
وتخيلوا لو أن الحكم صدر بإعدام مبارك ورجاله ولو مع وقف التنفيذ.. أو عمد حكم المؤبد السابق.. فحينها كان يستحيل اتهام السلطة الانقلابية بأنها مؤامرة أو لعبة لإعادة إنتاج النظام السابق! لكن الحمد لله فقد ستر الله وأصر الغباء على فضح نفسه، وتأكيد كل ما يتهم به!
***
التلاعب بالقضاء في مصر، وإهدار ما تبقى من استقلاله بعد ستين سنة من الحكم العسكري، وإفساد المنظومة البشرية والقانونية القضائية أمر لا يمكن أن ينتج إلا مثل هذه المحاكمات وهذه الأحكام المضحكة، وكأن المسألة فقط هو تبرئة هذا أو ذاك دون أن نعرف من قتل المتظاهرين وكيف صدرت الأوامر؟ أو أنهم انتحروا بأيديهم؟ أو يريدوننا أن نصدق حقا أن “حماس” أرسلت من غزة قواتٍ خاصة لقتل المتظاهرين في القاهرة لتشويه سمعة طيور الجنة في نظام مبارك؟!
ولو تأمل المنزعجون الغاضبون؛ ممن أيدوا الانقلاب العسكري؛ قليلاً في الأحداث التي مرت بها مصر خلال عام ونصف لفهموا أن البعرة تدل على البعير.. وأن السلطة التي انتهكت الدستور والقوانين وأجهضت المسار الديمقراطي، وقتلت الآلاف من رجال مصر وشبابها ونسائها، ونظمت عشرات المحاكمات الهزلية لرئيس الجمهورية المنتخب ومساعديه وللمعارضين السلميين (تذكروا الحكم بإعدام قرابة 800 مصري خلال نصف ساعة وبدون سماع الدفاع وحضور المتهمين).. هذه السلطة الفاسدة لا يمكن أن يخرج منها عدل وإنصاف وانحياز لدماء المصريين الذين قتلوا إبان ثورة يناير!
ولأن مضحكات مصر صارت مثل الدماء وليس كالبكاء كما كان في عهد المتنبي؛ فقد كان الأداء القضائي في عهد الانقلاب في غاية المهزلة، ومقابل أحكام الإعدام والمؤبد وعشرات السنين التي تصدر ضد المعارضين للانقلاب العسكري بعد القبض عليهم في بيوتهم أو في مسيرات واعتصامات سلمية؛ صدرت أحكام هزلية بحق الضباط والجنود الذين رأى العسكر أنه لا بأس بإدانتهم لصرف الأنظار عن كبار المجرمين.. حتى أن الضابط المجرم المعروف بصائد العيون؛ الذي أطلق الرصاص في عيون المتظاهرين في واقعة التظاهر في شارع محمد محمود وحكم عليه بالسجن سنتين؛ ظهر قبل أيام وهو يقود عملية اعتقال أحد قادة الإخوان المسلمين (عيني عينك!).. ويصير الحديث ألماً طويلاً عندما نتذكر أحكام السجن القاسية بحق طالبات الثانويات والجامعة المشاركات في مظاهرات واعتصامات سلمية.. ومئات من أبرز العلماء والأطباء والمهندسين ومن شتى التخصصات العلمية الذين يقبعون في السجون في ظروف قاسية يخجل اليهود أن يعتقلوا الفلسطينيين في مثلها!
***
اللعبة واضحة، ولا تحتاج أن يتظاهر البعض باستنكار أحكام القضاء ليبريء نفسه؛ فبمثل هذه الطرق تم الاستيلاء على السلطة.. والذين سكتوا عن المنكر الأكبر يبدون مضحكين وهم يستنكرون منكراً أصغر شاركوا بأنفسهم في تمهيد الطرق له!
ولمزيد من استجلاء مظاهر مضحكات مصر فهذا مثال آخر للغيبوبة العقلية والأخلاقية التي يعيشها بعض النخبة المصرية؛ ففي قناة “الحدث” ظهر الإعلامي الناصري حسين عبد الغني وهو يستنكر ويندد بأحكام براءة مبارك وأعوانه؛ ناسياً أنه كان وتياره أكبر المساندين للانقلاب العسكري وأسهموا بقدر أكبر في عمليات التزييف والكذب والتحريض حتى فاقوا تجمع الشيوعيين بقيادة رفعت السعيد.. واليوم يتظاهر الرجل بالغضب من تبرئة مبارك الذي يتهمه بأنه كان عميلاً للصهاينة والأمريكان! طبعاً على أساس أن عبد الفتاح السيسي وقادة الجيش والأمن المصري وطنيون قوميون مؤمنون بوحدة المصير العربي، وضرورة تحرير فلسطين، ودعم الكفاح الفلسطيني.. أو قولوا إن شئتم إنهم أعضاء مخلصون في منظمة أيلول الأسود.. ومستشارون في كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس.. لا ينامون حتى يصرخون: عائدون إننا عائدون.. على القدس رايحين شهداء بالملايين.. ويا ويلك يا صهيوني من شرنا! ويستيقظون فجراً لإعداد خرائط الحرب مع العدو الصهيوني والاستعمار الأمريكي، وفك الحصار عن غزة!
وهذا أنموذج من ردود الفعل الصهيونية على حكم براءة مبارك وفقا لصحيفة “الشروق” المصرية:
“من جهة أخرى، عبر أبناء الحاخام الإسرائيلي الراحل عوفاديا يوسف، عن سعادتهم بالحكم الذى أصدرته محكمة جنايات القاهرة ببراءة الرئيس المخلوع مبارك من التهم الموجهة إليه، وذكرت إذاعة “قول براماه” أن أبناء عوفاديا يوسف، ومن بينهم يتسحاق يوسف الحاخام الأكبر الحالي لليهود الشرقيين في إسرائيل، اعتبروا أن الحكم جاء بفضل البركات (الدعوات) التي منحها والدهم للرئيس المصري السابق خلال إحدى دروسه الأسبوعية”.