بقلمأغدا ألقاك؟ يا خوف فؤادي من غد
يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعد

بقلم –  يونس عودة

في 6-5-1971، انسابت أرق الكلمات وأعذبها من حنجرة كوكب الشرق السيدة أم كلثوم، تشدو بإحدى روائع الشاعر السوداني الهادي آدم؛ أغنية ” أغدا ألقاك “، التي ادخرها القدر لمناسبة خاصة، عاشها العرب آنذاك وقضت مضاجعهم.

وقعت نكسة عام 1967، وأصاب العرب ما أصابهم من جراح بليغة  دامية وخيبة أمل وانكسار. ومن موقعها، وبدافع حسها القومي، فقد ارتأت كوكب الشرق أن تحيي حفلات في دول عربية عدة، بغية دعم المجهود الحربي في مصر . فقد أحيت حفلتين في السودان وعادت أدراجها إلى جمهورية مصر العربية وهي في غاية التأثر مما وجدته، ولمسته في الشعب السوداني من أسى و حزن وألم يعتصر قلوبهم جميعاً بسبب نكسة 1967. ” لقد كنت أدخل بيوتهم، فأحس أنني في بيتي، وألتقي بهم فأشعر بأنني بين أهلي وعشيرتي “، هكذا عبرت أم كلثوم عن الشعب السوداني المحب لأمته، والغيور على شرفها، والمدافع عن حياضها. تساءلت أم كلثوم عن الطريقة التي تستطيع بها إثبات حبها للشعب السوداني، ورد الجميل اليه، فخلصت الى قرار مفاده: ” الشدو بأغنية لشاعر من السودان “، عرفانا وتقديرا لقلوب رقيقة عاشت النكسة، وبكت حال العرب وأمجاد الأمة.

ولأجل ضمان اختيار موفق لإحدى قصائد الشعراء السودانيين، فقد أسندت أم كلثوم الى الشاعر ” صالح جودت ” إنجاز هذه المهمة. فطاف في مكتبات القاهرة جميعها، بحثا عن كتب وأشعار الشعراء السودانيين المعاصرين. وبمساعدة بعض الاصدقاء، فقد تجمعت لديه سبعة دواوين لسبعة شعراء. درسها ومحّصها، واختار من كل ديوان قصيدةً تتوافر فيها الذائقة الغنائية. وقدم القصائد السبع الى كوكب الشرق التي ما أن قرأت قصيدة الهادي آدم حتى عضت عليها بالنواجذ. وتم استدعاء صاحب القصيدة إلى مصر، في ضيافة أم كلثوم، وبحضور الموسيقار محمد عبد الوهاب، وقرأوا- ثلاثتهم – القصيدة مرات ومرات مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة من هنا وهناك، ثم حُفظت في الأدراج لسنة كاملة بسبب وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، ثم صدحت بها مدوية في العام 1971 بمسرح ” قصر النيل ” في مصر ليسمعها العرب، كل العرب، من المحيط الى الخليج.

وكما يقال في الامثال ” ومن الحب ما قتل “. فعلى الرغم من سعادة الشاعر بغناء أم كلثوم لقصيدته الرائعة، إلا أن هذا العمل قد اختصر جلَّ تاريخه الادبي، فلا يكاد أحد يذكر قصائد أخرى للشاعر، رغم عددها الذي يزيد على المئة. والغريب أنه لم يغنِّ أحد من أبناء الجلدة المطربين أيا من قصائده الأخريات، أو يتناولها النقاد ضمن عملهم. وبعدها أصبح يشترط على الصحفيين ألا يسألوه عن قصيدة ” أغدا ألقاك “، ولم يدونها في دواوينه بهذا الاسم، إنما باسم” الغد “، خشية اختزال الديوان كاملا في تلك القصيدة. فهل هي لعنة – كلعنة الفراعنة -أصابته بسبب هذه الرائعة؟ يبدو أن الأمر كذلك. فقد كرمته بلاده بسببها بوسام الجمهورية الذهبي، واستدعته السفارة المصرية في الخرطوم للسبب نفسه للتكريم. ولم يتوقف الأمر إبان حياته، بل حين وفاته في 2006 نعته وسائل الاعلام بالقول: ” رحل صاحب  أغدا ألقاك “.فهل هي لعنة الحياة والممات؟

امتهن الهادي آدم التدريس في جميع المراحل، خاصة الثانوية العليا، حيث وجد المكان خصباً لسكب أشعاره الرقيقة الدافئة في جوف الشباب اليافع المتلهف لحلو الكلام. فقد شَهِدَ له النقاد ودارسو تاريخ الأدب بالتميز والسبق في نهضة الشعر في البلاد. إنه شاعر متمكن بحق، فهو يمتلك ناصية العربية باقتدار. كيف لا، وقد تخرج في كلية دار العلوم في مصر، وحصل على الليسانس في اللغة العربية وآدابها، كما حصل على دبلوم في التربية من جامعة عين شمس، وشهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة الزعيم الأزهري في السودان.

من دواوينه ” كوخ الاشواق “، ” عفوا أيها المستحيل “و ” نوافذ العدم “. كتب اشعاراً لفلسطين، ولبنان، ودمشق، ورثى جمال عبد الناصر في قصيدة ” أكذا تفارقنا ؟ “، كما كتب عام 1955 مسرحية شعرية بعنوان ” سعاد “. استمر في كتابة القصائد لسنوات متأخرة من حياته، إذ كان آخرها ” لن يرحل النيل ” التي يصور فيها باتقان وحرفية، وبريشة الفنان الماهر والحاذق، ما عصف من ذكريات ايام الطفولة والصبا في حي ” منيل الروضة “، حيث المرابع التي درج فيها خطواته الأولى. أحب تلك المرابع، كما أحب سماءها وترابها، وسهولها ومساكنها التي تعبق بالدفء والحنان، كأريج زهور الخزامى، وروائح البخور، ونسائم العطر السوداني، وحكايات الجدات المسلية.

من الجدير بالذكر، أن الهادي آدم لم يكن يحسب على تيار ايدولوجي بعينه، في حين ان بعضاً من أترابه وأقرانه- ممن تلقوا تعليمهم في مصر- قد تميزوا بيسارية مفرطة، كالفيتوري ومحي الدين فارس وتاج السر الحسن. كما أنه لم يتفرغ للشعر مطلقا، بل ظل مواليا لمهنة التدريس الى أن غدا مشرفا تربويا، وحينها أحيل إلى التقاعد.